تقع سريبرينيتسا، وهي بلدة صغيرة في شرق البوسنة والهرسك، في وادي نهر درينا الخلاب، بالقرب من الحدود مع صربيا. قبل الحرب الأهلية التي مزقت البوسنة في التسعينيات، كانت سريبرينيتسا مدينة هادئة مشهورة بطبيعتها الجميلة وغناها بالمياه المعدنية الحارة، مما جعلها وجهة سياحية وعلاجية معروفة في المنطقة. لكن، وعلى الرغم من هذا الهدوء والجمال، أصبحت سريبرينيتسا بعد الحرب رمزًا لأحد أحلك الفصول في تاريخ البشرية الحديث، حيث ارتُكبت فيها جريمة الإبادة الجماعية في يوليو 1995، التي أودت بحياة الآلاف من الرجال والصبيان المسلمين البوسنيين.
سريبرينيتسا قبل الحرب: بلدة الهدوء والعيش المشترك
قبل اندلاع الحرب في البوسنة والهرسك عام 1992، كانت سريبرينيتسا مدينة صغيرة يسكنها مزيج من المجتمعات، أغلبهم من المسلمين البوسنيين (البوشناق) والصرب. تعايش سكان سريبرينيتسا في سلام لعدة عقود، حيث كانوا يعملون معًا في مجالات الزراعة والتجارة والسياحة.
كانت البلدة معروفة بمواردها الطبيعية الغنية، وخاصة الينابيع المعدنية التي اجتذبت الزوار من جميع أنحاء يوغوسلافيا السابقة. كانت سريبرينيتسا مقصدًا لأولئك الذين يسعون للعلاج الطبيعي، حيث استخدمت المياه المعدنية في علاج الأمراض الروماتيزمية وأمراض الجلد. كما ازدهرت البلدة اقتصاديًا بفضل التعدين، إذ كانت المنطقة غنية بالموارد المعدنية مثل الفضة والحديد والزنك.
عاشت المجتمعات المختلفة في سريبرينيتسا جنبًا إلى جنب في سلام وتعاون، وكانت المدينة رمزًا للعيش المشترك والتسامح بين الأعراق المختلفة في يوغوسلافيا متعددة الثقافات.
بداية الحرب وتفاقم الأزمة
مع انهيار يوغوسلافيا في أوائل التسعينيات، بدأت التوترات العرقية والسياسية تتصاعد في البوسنة والهرسك، وتفجرت في حرب أهلية وحشية في عام 1992. أصبحت سريبرينيتسا، شأنها شأن العديد من المدن الأخرى في البوسنة، ساحة معارك واعتداءات متواصلة. مع تطور الحرب، أصبحت البلدة ملاذًا للآلاف من النازحين البوسنيين المسلمين الذين فروا من المناطق المجاورة التي كانت تتعرض للهجمات من القوات الصربية البوسنية.
بحلول عام 1993، أعلنت الأمم المتحدة سريبرينيتسا “منطقة آمنة”، وتعهدت بحمايتها من الهجمات. وعلى الرغم من هذا الإعلان، كان الوضع في سريبرينيتسا متوترًا للغاية، حيث كانت البلدة محاصرة من قبل القوات الصربية البوسنية بقيادة راتكو ملاديتش، وكانت الإمدادات الغذائية والدوائية محدودة للغاية.
الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا (يوليو 1995)
في يوليو 1995، وقعت واحدة من أفظع الجرائم في التاريخ الحديث. على الرغم من أن سريبرينيتسا كانت تحت حماية الأمم المتحدة، إلا أن القوات الصربية البوسنية اقتحمت البلدة بعد حصار طويل. بدأت القوات في 11 يوليو 1995 بتنفيذ عمليات قتل ممنهجة، استهدفت فيها الرجال والصبيان المسلمين، بينما تم فصل النساء والأطفال ونقلهم إلى مناطق أخرى.
على مدار عدة أيام، تم إعدام أكثر من 8,000 رجل وصبي بوسني بوحشية في ما اعتُبر لاحقًا إبادة جماعية، وهو أكبر مجزرة تُرتكب في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تم نقل الضحايا إلى مواقع مختلفة وأُعدموا بطرق وحشية، ثم دفنت جثثهم في مقابر جماعية في محاولة لإخفاء الجريمة.
أصبح مجزرة سريبرينيتسا رمزًا للألم والمعاناة، حيث أثبتت التحقيقات والمحاكمات الدولية أن هذه الجريمة كانت جزءًا من حملة تطهير عرقي استهدفت المسلمين البوسنيين.
العدالة والمحاسبة
بعد انتهاء الحرب في البوسنة والهرسك في عام 1995، بدأ المجتمع الدولي في ملاحقة المسؤولين عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي ارتُكبت في سريبرينيتسا. تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) للتحقيق في هذه الجرائم ومحاكمة مرتكبيها.
تمت إدانة العديد من القادة العسكريين والسياسيين الصرب، بمن فيهم راتكو ملاديتش ورادوفان كاراديتش، الذين تم توجيه التهم إليهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في سريبرينيتسا. في عام 2017، حُكم على ملاديتش بالسجن مدى الحياة بعد إدانته بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب.
على الرغم من تحقيق العدالة في بعض الحالات، إلا أن آلام الضحايا وأسرهم لا تزال حاضرة. يعتبر إحياء ذكرى المجزرة جزءًا مهمًا من التذكير بالتاريخ المأساوي والتأكيد على أهمية منع تكرار مثل هذه الفظائع في المستقبل.
إحياء الذكرى والذاكرة الجماعية
في كل عام، تُقام فعاليات إحياء ذكرى مجزرة سريبرينيتسا في 11 يوليو، حيث يجتمع آلاف الأشخاص من جميع أنحاء العالم في مقبرة بوتوكاري التذكارية القريبة من سريبرينيتسا لتكريم ذكرى الضحايا. هذا الموقع، الذي يحتوي على آلاف القبور التي تحوي رفات الضحايا الذين تم التعرف عليهم بعد العثور على مقابر جماعية، يُعد رمزًا للألم والفقدان، ولكنه أيضًا شهادة على الصمود والذاكرة الجماعية.
الخاتمة
تعد سريبرينيتسا اليوم رمزًا للتاريخ المؤلم، ولكنها أيضًا تمثل تذكيرًا بأهمية السلام والمصالحة. لا تزال هذه البلدة تحمل آثار الحرب، لكن سكانها، ومعهم المجتمع الدولي، يواصلون العمل من أجل الحفاظ على ذاكرة الضحايا وضمان عدم نسيان الجرائم التي ارتُكبت.
من خلال تذكر مجزرة سريبرينيتسا، نؤكد على أهمية العدالة، الإنسانية، والمصالحة، ونتعهد بالعمل على منع تكرار مثل هذه الفظائع في المستقبل، سواء في البوسنة أو في أي مكان آخر حول العالم.